سوسيولوجيا السينما
تعد السينما فنا من بين الفنون المختلفة والمتنوعة، التي خرجت من رحم المسرح بوصفه أبا لجميع الفنون، وقد عرف هذا الفن مجموعة من التحولات العميقة في مساره، بدأ من تجارب الأخوين لوميير كرائدي اختراع جهاز العرض السينمائي، مرورا بالسينما الصامتة خاصة مع شارلي شابلن، ثم المزج بين الصورة والصوت، فقد ″كانت المتغيرات التي حدثت للسينما في العالم منذ 1945 تغيرات تدريجية في معظمها، فلم يكن هناك حدث بعينه يمكن مقارنته بالانتقال السريع نحو الصوت الذي اجتاح العالم حوالي عام 1935‟. وخلال هذه المحطات بلورت السينما نضجا على مستوى الممارسة والتنظير خاصة مع الموجة الجديدة الفرنسية .La nouvelle vague و ″قد يتبادر إلى الذهن أن السينما مجرد آلات تقنية لعرض الصورة، ولعب فنية تصلح لإيهام المتفرج وجعله يتماهى مع ما يشاهد من صور متحركة، معتقدا أن المشاهدة الفنية صورة تعكس الواقع بشكل محايد، تستثمر فيها رأسمالا ماديا وبشريا، وتستغل فيها أيضا آلات تكنولوجية متعددة كآلة العرض، وأجهزة التصوير، وما يرتبط بعملية إنتاج الفيلم كالإضاءة، والمونتاج، والميكساج….‟، كل هذا مهم و أساسي في العملية الفنية، غير أن هناك وجه أخر للسينما على اعتبار أن الفن السينمائي إنتاج ثقافي يتبلور داخل مجموعة من الظروف الاجتماعية، كما أنه فعل اجتماعي يتفاعل فيه ما هو سياسي واقتصادي وإيديولوجي، كذلك الرغبات الذاتية والطموحات الشخصية، إضافة إلى الوعي الجماعي، كما تتداخل فيه التشكلات المعرفية بالجمالية…
يستأثر الفن السابع باهتمام العديد من المهتمين والدارسين والباحثين والتقنيين.. وذلك نظرا لأهميته المتزايدة في توفير فرجة متميزة، ثم قوته على التوثيق بالصورة والصوت والحركة للحدث الاجتماعي والسياسي والفكري.. فالسينما أصبحت معملا لصنع الأحلام والأساطير. إن الحدث الاجتماعي تكتنفه عوامل تقنية وفكرية تؤثر في صنع الفيلم الذي يؤثر بدوره على الجماعة والمجتمع والفرد. فقد كان الفن–عامة- ولا يزال، مجالا يستطيع فيه المرء، بمعزل عن بقية العالم، أن ينظم حياته الروحية، وينغمس في لذات روحية ذات طابع خاص تماما. مما يدفعنا إلى طرح مجموعة من التساؤلات، نذكر من بينها: ما هي الإشكالات المحورية التي تطرحها السوسيولوجيا كعلم على السينما كفن؟ وما علاقة السوسيولوجيا بالسينما؟ وما هو المسار الذي قطعته سوسيولوجيا السينما لكي تصبح فرعا من فروع السوسيولوجيا؟ وهل يمكن التفكير في السينما من غير كونها فنا صرفا؟
1.سوسيولوجيا السينما: الإشكالية و التحديد
للتعبير المرئي أساس اجتماعي، فهو يحدد رؤية للمجتمع، لذلك يعتبر هذا التعبير ممارسة ثقافية، فالثقافة والمجتمع من المفاهيم الأساسية في العلوم الاجتماعية، والعلاقة وثيقة بين المفهومين نظريا وعمليا، فالثقافة لا توجد إلا بوجود مجتمع والمجتمع لا يقوم إلا بالثقافة. فهي التي تمد المجتمع بالأدوات والأساليب اللازمة لإصدار الحياة فيه. فالأسئلة التي تتعلق بالأسباب الموضوعية والذاتية الكامنة وراء تكون واستمرار وتغيير الإنتاج الثقافي، تجعلنا بصدد سوسيولوجيا الثقافة، لأنها ″تمكن علماء الاجتماع من معرفة مفاتيح التغير الاجتماعي، وسماته، أي استخدام الثقافة ككاشف للعلاقات الاجتماعية، وتغيراتها‟، ومن هذا المنطلق لا يجب أن ننظر إلى الثقافة كعملية تجريد للواقع، بل كسيرورة اجتماعية، وتفاعل بين الإنسان ومحيطه. فمفهوم الثقافة يتضمن كل ما يمكن أن يعلم عن طريق العلاقات الإنسانية المتداخلة، كما يتضمن اللغة والعادات والتقاليد والنظم الاجتماعية جميعا.
فالثقافة تجبر الفرد على تجاوز الطبيعة وكل ما يميل إلى ما هو بيولوجي، من أجل بناء أنساق جديدة مادية ورمزية متكاملة تتجلى في كل ما يصنعه الإنسان في حياته العامة وكل ما ينتجه العمل من أشياء ملموسة، وكل ما يحصل عليه الناس عن طريق استخدام فنونهم التكنولوجية، كما تشمل من جهة أخرى مظاهر السلوك التي تتمثل في العادات والتقاليد، والتي تعبر عن المثل والقيم والأفكار والمعتقدات.
وتتجلى خصوصية الإبداع السينمائي في علاقته بالمجتمع، إذ لا يمكن فهم السينما أو تفسيرها معزولة عن المجتمع والعلاقات التي تربط بين المنتجين والمستهلكين لهذا الإبداع الثقافي، ومن هذا المنظور فإن كل إنتاج ثقافي كيفما كان يرتبط بهذا الشكل أو ذاك بالمجتمع، مما يدفعنا للقول أن المساهمة السوسيولوجية التي تركز على العوامل الاجتماعية والثقافية عند دراسة المسائل الثقافية هي مساهمة فريدة من نوعها.
السينما تعكس المجتمع بكل تفاعلاته، وتحولاته، إذ ما ينطبق على الأدب على سبيل المثال ينطبق على السينما، التي أصبحت محور اهتمام بعض السوسيولوجين والأنثروبولوجين، وهذا الاهتمام نابع من اعتبار السينما حقلا خصبا يجمع الواقع بالخيال، كما يجمع التقنية بالأدب، والفكر بفنون الفرجة، باختصار تعكس السينما الواقع بكل تجلياته وتستعمل كل التعبيرات الفنية و الأدوات التقنية وطرق التواصل في كل معانيها، وكانت ولا تزال السينما في قلب المجتمع.
ومن السوسيولوجين الذين كانت لهم مساهمات في هذا المجال، نذكر الفرنسي Emanuel Ethis الذي يرى أن السينما فن المشاركة «L’art de partage»، مادام هو الفن الأكثر شعبية في كل بلدان العالم، وهو بالإضافة إلى ذلك فن للشهادة، شهادة ثقافية بامتياز. إن دراسة العلاقة بين السينما والمجتمع لا تتحدد فقط في ما تحمله السينما من مضامين اجتماعية، بل في خصوصياتها التي تتميز بطقس أساسي للفرجة الجماعية. والجماعة «le groupe»تحضر من بداية ولادة الفيلم السينمائي إلى لحظة خروجه إلى القاعات، مرورا بمراحل الإنتاج والإخراج والمونتاج، والتحميض والتوزيع…..فما يميز الفيلم هو الطابع الجماعي. أما الخصوصية الثانية لفن السينما، هو ″فن تتفاعل فيه كل الفنون الأخرى كما تغذيه كل اللغات الناطقة منها وغير الناطقة، ومن غير المنطقي أن تكون السينما خارج المجتمع، إنها امتداد فاعل ومتفاعل مع كل مكونات الثقافة، امتداد في المسرح و التشكيل والموسيقى والتصوير والأداء التعبيري، والغناء وفي الكتابة الأدبية، امتداد في هندسة الصوت والصورة والضوء والعمران، في الاقتصاد والسياسة والقانون والتسويق، في التاريخ أيضا والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع و الأنثروبولوجيا، لذلك يجب الكف عن اعتبارها وسيلة للتسلية الشعبية‟.
2.السينما والسوسيولوجيا: أي علاقة؟
الفيلم السينمائي وثيقة اجتماعية مهمة تساهم في رسم قوانين حركة وديناميكية المجتمع وفهم طبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع. فالفيلم لم يعد يضع وجها لوجه ظواهر عالم متجانس من الموضوعات، بل عناصر من الواقع غير متجانسة تماما؛ خاصة وأن ميكانيزمات الهوية الاجتماعية قد أصبحت تتحدد بشكل متسرع: كل علامة أو أي عنصر يدخل في تشكيل الصورة، يحمل معه قوة مؤلمة وحقيقية للحقيقة الراهنة. إن السوسيولوجيا كعلم ينقل الواقع ويفسر الظاهرة الاجتماعية بالعودة إلى دراسة أسبابها ونتائجها؛ لا تعدو أن تتقاطع مع الوثيقة الفيلمية بصفتها تؤسس لخطاب يكشف الواقع ويعريه. إن الصورة تؤسس علاقة بصرية مع الواقع مع احترام الأماكن والأحداث والأشخاص.
إن السينما كتعبير اجتماعي، قادرة عموما على تناول المواضيع التي تعبر عن حاجات واهتمامات الناس، سواء بشكل واقعي أو تخيلي. فالسينما فن جماهير إلى أبعد حد، بمعنى أنها قادرة على الاتصال بالجماهير، قادرة على أن تتحدث بلغتهم، قادرة على أن تنقل الواقع إليهم. السينما أيضا محصلة الفنون جميعها، بعناصرها من صوت وصورة، من الكلمة والموسيقى. قادرة أيضا على تبسيط الأمور. وبما أن الصورة السينمائية لا توثق إلا الأشياء المحسوسة والمجسدة فإنها تظل واقعية، والواقع هو ما تتطرق إليه السوسيولوجيا كعلم يهتم بتحليل الوقائع الاجتماعية ودراستها. إن السينما هي ظاهرة معقدة لم تدرك أهميتها في حياتنا إلا بشكل تطوري، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أهمية السينما في حياة الشعوب. فقد أصبحت تلعب دورا لا يمكن إغفاله لأنها تؤمن الحفاظ على جودة صورة ما ونشرها، ثم تساعد على نشر الثقافة، وتبرهن على الاختلاف والأصالة بالنسبة للبلد المنتج.